فرنسا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي- عودة إلى التوازن أم انحياز مستمر؟

المؤلف: فاتحة أعرور11.01.2025
فرنسا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي- عودة إلى التوازن أم انحياز مستمر؟

يبدو أن الدبلوماسية الفرنسية تشهد تحولًا تدريجيًا وحذرًا نحو استعادة توازنها المعهود في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط والملف الفلسطيني، بعد فترة من الانتقادات اللاذعة. فبعد مطالبة السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة، نيكولا دو ريفيير، بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، مشددًا على الوضع الإنساني الكارثي، تقدم بمسودة قرار في بداية الأسبوع الماضي يدعو إلى هدنة مستدامة، والتحضير لمرحلة ما بعد الصراع.

بيد أن هنالك أصواتًا معارضة تصر على انتقاد النهج الذي تتبعه فرنسا منذ هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، منتقدة ما تصفها بـ"ازدواجية المعايير والتناقضات الصارخة". ففي الوقت الذي تقدم فيه باريس الدعم الإنساني للمتضررين، تستمر في الوقت ذاته في تزويد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة.

وتدعو هذه الأصوات إلى تبني مواقف تتفق مع قيم العدالة وحقوق الإنسان التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية، محذرة من التخلي عن النهج الدبلوماسي التقليدي الذي اتبعته فرنسا في التعامل مع السلام في الشرق الأوسط، والذي بدأ مع شارل ديغول وتعزز في عهد جاك شيراك.

فما هي الأسباب التي أدت إلى هذا التغيير في العقيدة الدبلوماسية الفرنسية تجاه قضايا الشرق الأوسط، والتي كانت تميل إلى التوازن والحكمة والعدالة والسلام، لتصبح في الوقت الحالي أكثر انحيازًا إلى الجانب الإسرائيلي؟

فرنسا والسلام في الشرق الأوسط

بالعودة إلى ستينيات القرن الماضي وحرب الأيام الستة، نجد نقطة تحول هامة في الموقف الفرنسي. ففي ظل تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية، قام شارل ديغول في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1967 بتنظيم مؤتمر صحفي في باريس، انتقد فيه إسرائيل بشكل علني، مؤكدًا أن أي تسوية للصراع يجب أن تتضمن انسحابًا من الأراضي المحتلة، ومعلنًا دعمه لقرار مجلس الأمن رقم 242 الذي يدعو إلى إنهاء الاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية.

وصلت لهجة الرئيس المؤسس للجمهورية الخامسة إلى أقصى درجات الوضوح عندما قال: "إسرائيل تنظم الآن عملية احتلال في الأراضي التي استولت عليها، وهذا لا يمكن أن يتم دون قمع وإذلال وطرد. والمقاومة التي ظهرت تصفها اليوم بالإرهاب". هذا التصريح أثار انتقادات واسعة ضد ديغول، وصلت إلى حد اتهامه بمعاداة السامية.

وفي شهر يونيو/حزيران من العام نفسه، اتخذت باريس، الحليف التاريخي لتل أبيب، خطوة أكثر تشددًا، حيث فرضت حظرًا على تصدير الأسلحة إليها، بعد أن ساعدتها في السابق على تطوير قدراتها النووية.

في مطلع الثمانينيات، قام الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران بزيارة تاريخية إلى تل أبيب، كانت الأولى من نوعها لرئيس فرنسي، وذلك تماشيًا مع التعاطف التاريخي في أوساط الحزب الاشتراكي الفرنسي، الأمر الذي كان محط انتقاد دائم من قبل مفكرين مرموقين، مثل المناضل التونسي ألبير ميمي، والطبيب الجزائري فرانتز فانون، والسياسي المغربي عمر بنجلون. وعلى الرغم من تأكيد ميتران على قوة "العلاقات الفرنسية الإسرائيلية"، إلا أن النهج الديغولي ظل ثابتًا في السياسة الخارجية الفرنسية.

وفي عهد الرئيس جاك شيراك، قام بزيارة إلى رام الله في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1996، وألقى خطابًا أكد فيه على أهمية قيام دولة فلسطينية، وشدد أمام الزعيم ياسر عرفات وأعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني على عمق العلاقات بين فرنسا وفلسطين.

وعندما زار شيراك القدس، ثار غاضبًا في وجه رجال الأمن الإسرائيلي عندما منعوا الفلسطينيين من الاقتراب منه، قائلاً: "ماذا تريدون مني؟ أن أعود إلى طائرتي والرجوع إلى فرنسا؟" ودعا شيراك إلى إنهاء الاحتلال، معتبرًا أنه يشكل خطرًا على فرص التعايش والسلام الدائم في الشرق الأوسط.

ومع ذلك، شهد اليمين الفرنسي، الذي كان ملتزمًا بسياسة التوازن والحكمة، تحولًا ملحوظًا لصالح الجانب الإسرائيلي في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. فخلال زيارته لإسرائيل في يونيو/حزيران 2008، ألقى خطابًا أمام الكنيست وصفه البعض بأنه قصيدة مدح، مؤكدًا أن "إسرائيل ليست وحدها، وأن فرنسا ستكون دائمًا إلى جانبها عندما يكون وجودها مهددًا".

واستمر حزب الجمهوريين، المتأثر بسياسة رئيسه السابق، في هذا المسار، قاطعًا بشكل كامل مع النهج الديغولي، ساعيًا إلى التخلص من صورة "فرنسا الداعمة للفلسطينيين"، وهو ما يفسر مواقفه المنحازة بشكل واضح لليمين المتطرف الإسرائيلي.

واستمر فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون على نفس النهج الذي بدأه ساركوزي. بل إن الرئيس الحالي سارع إلى زيارة تل أبيب لإعلان الدعم والمساندة المطلقين لإسرائيل، عقب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وبعد عودته، تصاعد الهجوم الإسرائيلي على غزة، وارتكبت المزيد من المجازر بحق المدنيين العزل والمرضى والطواقم الطبية في المستشفيات، في تجاهل تام للرأي العام الدولي الغاضب وللمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

 تنظيمات المعارضة

تجدر الإشارة إلى أن توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 ساهم بشكل كبير في تراجع الاهتمام الدولي بالملف الفلسطيني، وتراجع حماس الشعوب ومعظم الداعمين له. كما ساهمت ظاهرة الإرهاب في تصدر المشهد، حيث أصبحت الأولوية القصوى، خاصة بعد احتلال العراق والحرب في سوريا.

إلا أن الرأي العام بدأ يدرك تدريجيًا، بما في ذلك الرأي العام الفرنسي، أن السلام الدولي لا يتحقق إلا من خلال تطبيق القانون الدولي بشكل عادل ومتساوٍ، ووضع حد لسياسة الكيل بمكيالين. فلا يمكن إدانة نازية هتلر والتغاضي عن تجاوزات وجرائم نتنياهو بحق المدنيين.

كان الرأي العام الفرنسي غير مكترث في الماضي بما يحدث حوله، متأثرًا بالخطاب الإعلامي الذي يثير الأحقاد، خاصة ضد الجاليات العربية والمسلمة والمهاجرين من أفريقيا. ولكن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاه من مآسٍ في غزة، أعاد القضية الفلسطينية بقوة إلى الواجهة، وهو ما يعتبره البعض صحوة ساهمت فيها الجالية المسلمة وتيارات اليسار ومنصات التواصل الاجتماعي. فقد خرج الآلاف من الفرنسيين إلى الشوارع للتظاهر ضد العدوان على المدنيين، مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار، مما أدى إلى الضغط من أجل مراجعة السياسة الرسمية.

إن المنظمات الفرنسية التي تدعم السلام في الشرق الأوسط وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة قليلة العدد، ولكن شعبيتها وتأثيرها يتزايدان باستمرار. ويعد الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام (UJFP) أحد أهم هذه المنظمات، حيث يقدم نفسه منذ تأسيسه عام 1994 كمنظمة "يهودية علمانية عالمية تعارض الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وتدعو إلى سلام عادل ودائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين".

كما لعبت المنظمات الحقوقية والسياسية، وخاصة حزب فرنسا الأبية والحزب الشيوعي الفرنسي وجزء كبير من البيئيين، دورًا هامًا في التحول الذي تشهده الدبلوماسية الفرنسية تجاه الملف الفلسطيني.

وتشهد الساحة الفرنسية غيابًا شبه تام لتأثير الدبلوماسية العربية على النخب السياسية الفرنسية في هذا الموضوع، باستثناء جهود الدبلوماسية القطرية في تعديل الموقف، خاصة بعد زيارة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر لباريس في فبراير/شباط الماضي، ومباحثاته مع الرئيس إيمانويل ماكرون بشأن الهدنة والمساعدات الإنسانية، كجزء من الدور الفعال الذي تقوم به قطر في الوساطة بين حركة حماس وإسرائيل.

وعلى الرغم من المساعي الفرنسية الأخيرة في الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار وإرسال المساعدات إلى الضحايا في غزة، تطالب المعارضة الفرنسية اليوم بوقف جميع مبيعات الأسلحة لإسرائيل، على غرار كندا وهولندا. وقد عبر عن هذا الموقف 115 برلمانيًا وبرلمانية في رسالة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، مشددين على "خطورة المشاركة في الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني".

وقد لخص أحد النشطاء الحقوقيين الدبلوماسية الفرنسية الحالية بالقول: "إنها سياسة الطعام والسلاح في الوقت نفسه. هذا كل ما في الأمر، وما لم نتوقف عن حظر الأسلحة، فلا أهمية للمساعدات الغذائية".

إن الحرب المستمرة في غزة بدأت تهدد السلم الداخلي والتعايش المشترك في العديد من الدول الغربية، وخاصة بين المواطنين اليهود والمسلمين. ولا يمكن استثناء فرنسا من هذا الخطر، نظرًا لوجود عدد كبير من اليهود والمسلمين الذين يتأثرون بشكل مباشر بما يحدث في فلسطين، في ظل وجود إعلام منحاز وغير نزيه.

إن استعادة فرنسا لتأثيرها ومكانتها المرموقة تتطلب الالتزام بالنهج المتوازن الذي اتبعته في الماضي، والذي شكل على مدى عقود عقيدة راسخة في سياستها الخارجية. ويرى الكثيرون أن باريس فقدت قوتها الدبلوماسية المعهودة وتراجعت استقلاليتها في اتخاذ القرارات الدولية، وهو ما يتجلى بوضوح في الحرب على المدنيين في غزة، والتي غيرت الكثير من معادلات السياسة الدولية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة